الأحد، 19 فبراير 2012

المعلمون .. في مواجهة الاختلال في ميزان العدل



د. عيدة المطلق قناة

عانى المعلمون طيلة عقود طويلة من الإقصاء والتهميش .. فكانت النتيجة أن تراكم الظلم واستبيحت مهنة التعليم .. وتم التطاول على منتسبيها وأبنائها الحقيقيين .. كما تم التجاوز على حقوقهم الدستورية .. حتى أن تمتع المعلمين بأي حق لهم - مهما كان متواضعاً - كان لا بد أن يمر عبر مخاض عسير جداً .. فكانت النتيجة أن ظل المعلمون وحدهم - دون جميع مهنيي الأردن - خارج أي سياق تنظيمي يجمعهم ويحمي حقوقهم ويرتقي بمهنتهم التي كثيراً ما يصفها الناس بمهنة الأنبياء والرسل !! ولكن رغم كل هذا الجور ظل المعلمون الأردنيون قابضون على الجمر .. أوفياء لطلبتهم ومهنتهم ووطنهم ورسالتهم .

واليوم تمر البلاد بأزمة حقيقية عنوانها "حق المعلمين في كامل العلاوة المهنية" التي ما زالت الحكومات المتعاقبة تماطل فيها رغم أنها استحقاق مؤجل منذ عام 1994. ولكن يبدو من تصاعد الأزمة بأن الحكومة في معالجاتها لم تعد قادرة على تجاوز آليات التسويف والمماطلة والتجاوز والإهمال حيناً  .. والتهديد والوعيد حيناً آخر .. وإطلاق حملات التجييش والاستعداء والكراهية أحياناً !!
المشهد الأردني اليوم يحتشد بغياب الحكمة وبكثير من التوتر كما تكشفه تصريحات غير مسئولة؛ ومواقف متصلبة؛ وتهديدات مرفوضة. وحين تغيب الحكمة وترتفع حرارة الأجواء يصبح تبريدها أمراً مستعصياً ؛ مما يفسر فشل اللقاءات التي جرت للخروج بحل مرض يحفظ كرامة كل الأطراف !

لقد بات المشهد زاخراً بالمفارقات والمحاذير الإشكالية لعل منها :
1. عجز الموازنة العامة :
ندرك أن الموازنة العامة تنوء بالأعباء المالية الثقيلة .. ولكننا بالمقابل نقف في حالة من الصدمة والترويع أمام نهب المال العام واستنزاف موارد الدولة ونهب مقدرات الوطن  وبيع مؤسساته وشركاته لأشخاص وهميين وشركات وهمية بأبخس الأثمان .. مما يفسر عدم قبول لأردنيين بكل ما تسوقه الحكومة من حجج وذرائع تفيد بعجزها عن تأمين بضعة ملايين لقطاع يزيد تعداده عن مائة ألف ويعيلون حوالي مليون أردني!!

2. التباين الفاحش في الرواتب :
كيف يفهم الأردنيون ذلك التباين الفاحش في الرواتب والامتيازات بين موظفي القطاع العام بكل مؤسساته، وموظفي المؤسسات المستقلة .. حيث يتقاضى نفر من الأردنيين رواتب فلكية ، بل تغولوا على هذه المؤسسات عبر آليات النهب والمحسوبية والشللية والأعطيات وحولوها إلى مزارع .. حتى جف ضرع الوطن وتركوه قاعاً صفصفاً .. ناهيك عن انعكاسات هذه التباينات في الرواتب على صندوق تقاعد الضمان الاجتماعي؟؟ 
وحين ندقق في مؤهلات هؤلاء المحظيين نجد أن معظمهم ذوي مؤهلات عادية .. بل إن بعضها متواضع ودون المطلوب .. وحين ندقق بخدماتهم "الجليلة" التي استحقوا عليها كل هذا "الشفط واللهط" نجد أن سنوات خدمة العديد منهم لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ونتساءل عن المعايير التي نالوا بموجبها كل هذه الحظوة ؟

وبالمقابل نجد أن المعلمين - وجميع معلمي الأردن مؤهلون تأهيلاً أكاديمياً ومهنياً رفيعاً -  لا ينالون سوى النزر اليسير الذي لا يكاد يفي بمتطلبات الحياة الأساسية .. وحين يطالبون بالفتات من حقوقهم الدستورية توضع في طريقهم "مصدات" الموازنة وضعف الإمكانات فكيف يمكن لأحد تسويغ هذا الاختلال في ميزان العدل ؟؟ 
3. سلاح الفتوى :
في حين أن قضايا الفساد تزكم الأنوف، ويعج الشارع  الأردني بالاعتصامات والشعارات المطلبية والحراكات الإصلاحية العابرة للتوجهات السياسية والطبقات الاجتماعية والمواقع الجغرافية والمهنية والعمرية منذ أكثر من عام؛ إلا أن مؤسسة الفتوى الأردنية  لم تصلها روائح الفساد ولا أصوات المحتجين .. لنجدها قد استيقظت فجأة  لتفتي بتحريم الاعتصام على المعلمين!!  ..

4. التطاول على هيبة المعلمين :
تجاوز التطاول كل الحدود فبعض المتمادين نصبوا أنفسهم وعاظاً وناصحين،  وبعضهم نصبوا أنفسهم لعانين رداحين، وبعضهم حمل "القنوة" وراح يلوح  بها باتجاه رؤوس المعلمين.

5.  التهديد والوعيد
6. إن التهديد باستخدام الجيش الوطني والدرك والأمن العام وغيرها من مؤسسات الوطن السيادية المحترمة هو بحد ذاته امتهان لكرامة هذه المؤسسات .. فهل تتعامل حكوماتنا المتعاقبة مع "جيش كل الأردنيين" باعتباره "العصا الاحتياطية" ترفعها بوجه من يعترض سبيلها .. مرة تستخدمها لـ"تزوير الانتخابات .. واليوم يراد لها أن تتحول أداة لكسر إرادة "جيش المعلمين"! أليس في هذه الممارسات شكل من أشكال الاستنساخ – غير المحمود - للنموذج القذافي  أو الأسدي ؟؟ 

إن هذه الإشكاليات وغيرها تشكل بذاتها تحديات للسلم الأهلي والاستقرار ونتساءل :

·   الحكمة في إشهار "سلاح الفتوى" بوجه اعتصام المعلمين بالتحديد دون غيرهم من الفئات ... ونقف حائرين أمام الحكم الشرعي في التمييز بين الأردنيين في إباحة ذات السلوك لفئة وتحريمه على أخرى ؟
·  وأين تكمن مصلحة الأردن والسلم الأهلي في شحن الأجواء ،  بمفردات الابتزاز وعدم الاحترام ؟
·      وأي خير يرتجى من النيل من المعلم وصورته وسمعته وكرامته ؟
·  ألا يخشى هؤلاء من تداعيات سقوط هيبة المعلمين على سقوط هيبة الدولة والمجتمع؟
·  أين كانت هذه الأبواق النشاز- التي امتهنت الردح في كل الأزمنة - حين استبيحت كافة مقدرات الوطن ؟؟ ومن نصبها أوصياء على أمن الأردن واستقراره؟
·      وأي جريمة يرتكبها هؤلاء بحق الاستقرار والسلم الأهلي ؟
·       وأي عقل استراتيجي سمح بمثل هذه المهزلة ؟؟
·  أما عن الحكومة ومن نصب هذه الأبواق - التي تردح في كل الأزمنة - أوصياء على أمن الأردن واستقراره؟
·  وهل الاعتراف بالحقوق لأصحابها واجب أم منة تقتضي كل هذا الامتهان لكرامة الناس؟
·  وهل تصويب الأخطاء وإعادة الحقوق لأصحابها تنازلات لا يجوز للحكومات أن تقدمها؟ 

إن الحكمة تقتضي الخروج الآمن لكل الأطراف كما تقتضي من الحكومة اتخاذ قرارات رشيدة أهمها :
·      الاستجابة الفورية والكاملة لمطالب المعلمين باعتبارها حقوق مستحقة ومؤجلة.
·       اعتماد الحوار المباشر في تصويب العلاقة بين أطراف المعادلة.
·      التوقف - وإلى غير رجعة -  عن لغة الابتزاز والتهديد والتجييش الإعلامي.
·  الاعتذار للمعلمين عن كل ما صدر بحقهم من إساءات ؛ وعن كل تشكيك بوطنيتهم ونزاهتهم ، وكل مس بكرامتهم ؛ لأن كرامة المعلم من كرامة الوطن !!

إن المعلمين الأردنيين لم يكونوا يوماً دعاة فوضى إنما أصحاب حقوق ..وحينما يمارسون حقهم الدستوري في الاحتجاج السلمي فإنما يمارسونه بكل مسؤولية ووطنية واتزان ؛
إن مطالب المعلمين في الاستحقاق الكامل في العلاوة المهنية إنما تمثل الحد الأدنى لعيش مستور لا عيش رغيد!

ونستحضر في هذا السياق بأن في كل دولة متقدمة (كألمانيا ، واليابان ، وسنغافورة، وماليزيا .. وكوريا وغيرها) هناك نظام تعليمي راق يتبوأ فيه المعلم الركن الأساس في المشهد النهضوي الرفيع.

ونذكر أنفسنا بأنه حين يختل ميزان العدل تختل التنمية ويختل النظام العام ..
"فهل من مدكر" ..

eidehqanah@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق